اقتصاد

قصة الدولار في مصر… محاولة للفهم

ارتفاع سعر الدولار في مصر هو الصوت الذي يعلو الآن على صوت النقاش حول الدولار، خفت الكلام قليلا في ظل الانشغال بكأس العالم، ثم عاد بقوة مرة أخرى.

ايه آخرتنا مع «الدولارات» … بيروقراط على تكنوقراط

ارتفاع سعر الدولار في مصر هو الصوت الذي يعلو الآن على صوت النقاش حول الدولار، خفت الكلام قليلا في ظل الانشغال بكأس العالم، ثم عاد بقوة مرة أخرى، ويعلو كلما طرأ جديد في ملف لا يمل الناس من فتحه في ظل أزمة خانقة تضرب بالجميع، ولكن كيف وصلنا لهذه المرحلة؟ ولماذا؟ وما هي قصتنا مع الدولار؟

ما هي أهمية سعر الدولار؟

جزء رئيس في ازمة ارتفاع سعر الدولار في مصر هو كيف ننظر لسعر الصرف، وأهميته. 

تاريخيا -للأسف- كان سعر الصرف هو أهم مؤشر تهتم به الحكومة وتعده هو المعبر عن الاقتصاد، بالشكل الذي يجعل التحرك فيه يساوي دائما تحرك من الحكومة لمواجهته، بعيدا عن أي مؤشر آخر، أي أننا لا نجعله أولوية وفقط، بل أيضا عندما نعالجه كنا نكتفي بعلاجه وحده، ولكن هل كان هذا المنحى صحيحا؟ 

رحلة في أسعار الدولار حول العالم

عندما ننظر لأسعار صرف الدولار عالميا، نجد أن سعر الدولار أمام اليوان الصيني (ثاني أكبر اقتصاد في العالم) يصل إلى ما يزيد عن 7 يوان.

بالمثل، فسعر الدولار أمام الين الياباني (ثالث أكبر اقتصاد في العالم) يزيد عن 133 ين.

ثم ثالثة الأثافي، سعر صرف الدولار أمام الروبية الهندية (سادس أكبر اقتصاد في العالم) يزيد عن 81 روبية.

ما الذي يعنيه ذلك؟ بشكل مبسط فإن سعر صرف العملة المحلية (الجنية المصري في حالتنا) لا يعبر بالضرورة وحده عن قوة/ضعف الاقتصاد، ولا يعبر بالضرورة -أيضا- عن وجود أزمة من عدمه، وارتفاعه أو انخفاضه  كمؤشر -وحده- غير كاف لفهم طبيعة الأزمات الاقتصادية.

اسعار الدولار حول العالم

العملةالقوة الاقتصاديةمعدّل الفارق
الدولار الامريكيأقوى اقتصاد في العالمثابت
اليوان الصينيثاني أكبر اقتصاد في العالم7 يوان
الين اليابانيثالث أكبر اقتصاد في العالم133 ين
الروبية الهنديةسادس أكبر اقتصاد في العالم81 روبية
الجنيه المصريغير كافي لفهم طبيعة الأزمات؟؟؟

هل يسري ذلك على سعر الصرف فقط؟

في الحقيقة لا، إذا نظرنا لحجم الدين على سبيل المثال نجد اليابان أعلى دولة في العالم من حيث نسبة الدين لإجمالي الناتج المحلي، تليها مباشرة دول مثل السودان واليونان وإريتريا، وبالطبع فهي دول مختلفة تماما في المستوى الاقتصادي.

هذا يعني ببساطة أنه لا مؤشر كاف وحده للدلالة على وضع الاقتصاد، وأنه كي نفه أي أزمة اقتصادية، يجب النظر من زوايا متعددة ومن خلال مؤشرات مختلفة، حتى ولو كانت الأزمة متفجرة من أحد الزوايا وبادية بشدة في أحد المؤشرات، مثل سعر صرف الدولار في حالتنا.

إذا، ما هي مشكلة الدولار من ناحية (ارتفاع سعر الدولار في مصر)، في سياق أزمة الاقتصاد المصري عامة؟

جي في ايه وسافرت في ايه ومريحتش عندنا ليه … أيها الدولار؟

يمكن النظر للدولار كسلعة، إذا كان حجم المعروض منها كبير والطلب عليها قليل، فإن سعرها سيكون قليلا، وحال كان حجم المعروض قليل والطلب عليها كثير، فسيعلو سعرها.

ومن ثم فالسؤال الأول هو ما هي مصادرنا من الدولار (المعروض)؟

بشكل مبسط فإن الاقتصاد المصري يأتي بالدولار بشكل طبيعي من…

 5 مصادر رئيسية للدولار (طبقا للبنك المركزي):

– الاستثمار الأجنبي المباشر

– التصدير

– السياحة

– قناة السويس

– تحويلات المصريين العاملين بالخارج

بلغ إجمالي الدولار الآتي من هذه المصادر في سنة 20-21 76 مليار، وفي 21-22 بلغ 102 مليار (بحسب بيانات البنك المركزي).

ولكن أي من هذه المصادر أهم من حيث حصيلة الدولار التي يوفرها؟

– بحسب بيانات البنك المركزي فتحويلات المصريين العاملين بالخارج كانت المصدر الأول في عام 20-21 بنسبة 41% وكانت المصدر الثاني في 21-22 بنسبة 26% (القيمة ظلت كما هي تقريبا في حدود 31 مليار دولار)/ لكن السؤال هنا هل لهذا تأثير على ارتفاع سعر الدولار في مصر ؟

– التصدير أتى في المركز الثاني في 20-21 بنسبة 37.7% وكان المصدر الأول في 21-22 بنسبة 43%

– بينما استحوذت الثلاث مصادر التالية مجتمعين على 21% من حصيلة العملة الصعبة في 20-21 (بأرقام شبه متساوية من بعض) ومثلوا نسبة  26% في 21-22 (بأرقام شبه متساوية أيضا)

هذا يعني أن مصادرنا من الدولار تعتمد بشكل كبير على تحويلات المصريين بالخارج، أي أنه عمليا الشعب هو من يعطي الدولار للحكومة حتى تقوم بالصرف منه.

من ثم، فإن من المنطقي أن يكون السؤال التالي هو، أين تقوم الحكومة بصرف ما جمعته من الدولار؟

بشكل رئيسي لدينا بندان في المصروفات:

أولا: الديون الخارجية: وهذه ديوننا بالعملة الأجنبية (يضاف إليها الديون بالعملة المحلية فنصل لإجمالي الدين العام). خلال السنوات السابقة فإن الديون الخارجية قد زادت من 34 مليار في 2012 حتى 155 مليار في 2022، بزيادة قدرها 120 مليار دولار.

حتى ندرك حجم الزيادة تلك،  فإن إجمالي أقساط وفوائد الديون الخارجية فقط في 20-21 كانت تساوي حوالي 15.8 مليار (مع تأجيل سداد ودائع خليجية) وهو ما يساوي إجمالي إيرادات الثلاث مصادر الأقل للعملة الأجنبية (السياحة-الاستثمار الأجنبي المباشر-قناة السويس) والتي بلغت وقتها 15.9 مليار.

وللتوضيح أكثر فيما يتعلق بالديون عامة، فإجمالي مصروفات الديون (أقساط وفوائد) الداخلية والخارجية كانت تمثل 54% من موازنة السنة الحالية 22-23، أي أن أكتر من نصف الميزانية يذهب لصالح سداد الديون، سواء داخلية (بالجنية) أو خارجية (بالدولار).

ثانياً” الواردات: خلال عشر سنوات أيضا بلغت قيمة الواردات 72.9 مليار في 2012، بينما في أول 9 أشهر فقط في 2022 وصلنا تقريبا لحجم واردات بلغ 73 مليار، أي أننا تقريبا بنهاية السنة – إذا ما استمرينا بنفس المعدل – يمكن أن نصل لقرابة 97 مليار دولار، وهو ما سيكون أكبر من السنة الماضية التي وصل فيها حجم الواردات ما يقارب 89 مليار في 2021.

هذا يعني أن مصروفاتنا في الواردات تزيد، وصعدت خلال العشر سنوات الأخيرة 25 مليار دولار (ضعف ونصف الزيادة في الصادرات في نفس الفترة كما سيأتي لاحقا).

يبرز هنا سؤال هام، ما بين إيراداتنا من الدولار ومصروفاتنا من الدولار، هل هناك أي نوع من الادخار نقوم به للدولار، ألا توجد أي “حصالة” ندخر بها الدولار لأوقات الأزمات؟

هذه “الحصالة” هي البنك المركزي، والمدخرات هي احتياطي النقد الأجنبي، وهو كم النقد الأجنبي الذي يحتفظ به البنك المركزي، وفي حالتنا في مصر، فوضعنا الحالي ( بعد ارتفاع سعر الدولار في مصر ) هو كالآتي:

أولا: حجم الاحتياطي النقدي خلال عشر سنوات، زاد من 14 مليار في منتصف 2013، حتى 33 مليار في أكتوبر 22، مما يعني زيادة 19 مليار، وهو بالطبع أمر جيد.

– ولكن عندما ننظر لطبيعة الاحتياطي النقدي، نجد أن 28 مليار هي ودائع خليجية، مما يعني أن 87% من الاحتياطي النقدي لدينا هو ودائع سيتم استردادها في وقت قصير-متوسط-طويل الأجل، حسب كل وديعة، ومن ثم فإجمالي الاحتياطي ليس مستقرا حيث أنك لا تملكه فعليا.

ثانيا: الأمر المهم الآخر، أننا كنا قد وصلنا لاحتياطي نقدي أعلى من الأرقام الحالية في سنوات سابقة، خاصة 2019، ولكن ذلك أيضا كان مدعوما بالأموال الساخنة، وعندما حدثت الأزمة الأوكرانية، خرجت الأموال الساخنة بقيمة حوالي 22 مليار دولار (حسب تصريح وزير المالية) في مطلع 2022، وهو ما يؤشر لطبيعة المشكلة في الاحتياطي النقدي الذي تكون لدينا في وقت سابق.

ثالثا: هي نسبة الديون قصيرة الأجل (خلال سنة) مقارنة بالاحتياطي النقدي، وهي المصروفات الدولارية من الديون مقارنة بالمدخرات لدينا في “الحصالة”، هذه النسبة وصلت في عام 2016 إلى 50% تقريبا، وفي 2022 وصلت إلى 71%، لماذا ركزنا على هاتين السنتين بالتحديد رغم أن السنوات الأخرى في العشر سنوات الأخيرة كانت النسبة تتراوح بين 17% في 2013 و31% في 2021، الأمر ببساطة أن هاتين السنتين هما السنتان اللاتي حصل فيهن تخفيض للعملة، وهو ما يوضح أثر هذه النسبة، فعندما وصلت 50% انخفضت قيمة العملة من 8 لحوالي 18 جنيها للدولار الواحد (ثم استقرت عند 15)، وحاليا صعدت من 15 حتى 25 تقريبا، وللأسف مرشحة للصعود أكثر وأكثر.

أخيرا: بعيدا عن “حصالة” البنك المركزي، ففيما يتعلق بالبنوك، فصافي الأصول الأجنبية، وهو عبارة عن الالتزامات الخاصة بالقطاع المصرفي (بما فيه البنك المركزي) بالعملة الأجنبية لغير المقيمين في مصر مقابل الودائع والمدخرات بالعملة الأجنبية في القطاع المصرفي، قيمة هذا الصافي في العشر شهور الأخيرة بالسالب، أي أن الالتزامات أكتر من الأصول.

يضاف إلى ذلك أن لدينا حاليا 5 مليار دولار طلبات واردات، قدم المستوردين الاعتمادات المستندية الخاصة بها بالفعل وقاموا بإيداع المبالغ بالعملة المحلية بقيمة 120% من قيمة الشحنات الخاصة بهم، ورغم ذلك لم يتم تدبير للعملة الأجنبية من قبل البنوك لهذه الطلبات.

ما العمل بعد ارتفاع سعر الدولار في مصر ؟

إذا أردنا أن نحسن من وضع سلعة الدولار، فهذا يعني أننا بحاجة لزيادة في مواردنا من الدولار، طبقا للمصادر الخمسة تحدثنا عنها أعلاه، أو أن نقلل من مصروفاتنا من الدولار.

بالنسبة لمصادرنا من الدولار: 

أولا: التصدير 

يعتبر أكثر مصدر كان يمكن العمل عليه، على اعتبار أن له عدة فوائد مختلفة ليست متعلقة فقط بالدولار، لكن أيضا تحسين العجز في الميزان التجاري (الفارق بين صادرتنا وواردتنا) وتوفير فرص عمل (لأن من سيقوم بزيادة في التصدير سيحتاج لزيادة في الانتاج ومن ثم زيادة في العمالة) وغيره من الفوائد، وبالتالي يقلل من نسبة ارتفاع سعر الدولار في مصر .

عندما ننظر لزيادة صادراتنا خلال العشر سنوات الماضية من 13-22 نجد أنها زادت من 21 مليار إلى ما يقارب 32 مليار، يعني ذلك 10 مليار زيادة فقط في عشر سنوات، هذا الحجم من الزيادة ضعيف للغاية في الفترة الزمنية نفسها، للمقارنة مثلا نجد تركيا في الفترة نفسها زادت من 227 ل 288 مليار، أي حجم زيادة 61 مليار دولار، والمقارنة هنا مع تركيا لأنها حاليا في ظروف شبيهة جدا بنا، متعلقة بحجم الدين وتدهور قيمة العملة والتضخم وغيره.

المشكلة الأكبر هنا هو أنه رغم مشهد التعويم المدار الذي حدث في 2016، وانخفاض قيمة العملة، مما يعني انخفاض قيمة السلع المصرية ومن ثم زيادة قدرتها على التنافس في الخارج، فإن فرصة زيادة التصدير نتيجة هذا الواقع لم يتم استغلالها للأسف بالقدر الكاف، مثلما وضح لنا بالأرقام.

ثانيا: تحويلات المصريين العاملين بالخارج

حدثت محاولات بالفعل مثل تسهيل استيراد السيارات مقابل وديعة دولارية، ولكن كما تم إعلانه فالمحصلة والنتيجة كانت ضعيفة للغاية والاقبال كان متواضعا جدا على المبادرة (ما يقارب 91 شخص قاموا بتحويل الوديعة في أول 15 يوما تقريبا من إعلان المبادرة والتي ستستمر عدة أشهر فقط)، وكان ذلك بالأساس نتيجة الشروط غير المناسبة التي فرغت المبادرة فعليا من مضمونها.

ماذا عن المصادر الثلاثة الأخرى؟ 

1- السياحة: للأسف قطاع متقلب نتيجة أي حدث، وهو في مصر حظه سيء للغاية، تقريبا كلما انتعش تحدث أزمة ترجعه للوراء، آخرها بالطبع الكورونا، يضاف إلى ذلك عدم نجاح السياسات الحكومية حتى الآن في انعاش القطاع المضطرب، مما ادى الى ارتفاع سعر الدولار في مصر .

2- قناة السويس: منذ 2016 فإن التباطؤ في نمو الاقتصاد العالمي وقتها، أدى لعدم قدرة القناة على زيادة دخلها وهو ما لم نخرج منه -عالميا- إلا على كارثة كورونا التي دمرت هذا النمو تماما. والقناة هي في نهاية الأمر معبر ومن ثم مرتبطة بحجم ما يعبر منها من تجارة عالمية.

ومن ناحية آخرى فقد فشلنا في تحويل قناة السويس لممر لوجيستي حقيقي، يزيد فعلا من الإيرادات حتى لو كانت التجارة العالمية ليست في أحسن حالتها، ويحولها من مجرد معبر لمركز لوجيستي ضخم. 

3- الاستثمار الأجنبي المباشر: تقريبا لا توجد حكومة في مصر من السبعينات، وقت الانفتاح، إلا وتتحدث عن جذب الاستثمارات، ولكن عندما ننظر إلى الواقع نجد أن هناك العديد من الوقائع التي تدلل على عدم ترجمة تلك الرغبة إلى واقع حقيقي، وبالإضافة لذلك حجم التعقيدات الإدارية فضلا عن أوضاع غير مستقرة للاقتصاد، ومزاحمة شركات الدولة للقطاع الخاص، كل ذلك يمنع في النهاية دخول المستثمرين.

ما العمل؟ “نعمل ايه يا أستاذ غسان”

في مواجهة كل ذلك كان الحل الذي اتخذته الحكومة هو أن نقلل من مصروفاتنا من الدولار، وبطبيعة الحال لن نستطع تقليل الديون لأنها التزامات سابقة نراكمها منذ عشر سنوات، فكان الحل الوحيد هو أن نعلق “حنفية” الاستيراد، فنقلل مصروفاتنا من الدولار، ونزيد مخزوننا من الدولارات في “الحصالة” لدينا (الاحتياطي النقدي) من خلال ودائع خليجية، وهو ما تم بالفعل في أول السنة الحالية.

غلق الاستيراد لم يكن فقط بفرض الاعتمادات المستندية، لكن أيضا في وقف قبول العملة الأجنبية مجهولة المصدر، فضلا عن عدم تدبير العملة الأجنبية للمستوردين الذين قدموا بالفعل الاعتمادات المستندية بشروطها.

ولكن المشكلة هنا أن وقف الاستيراد ليس حلا في ظل وجود إلتزامات دولارية، بالإضافة بالطبع لتسبب ذلك في كوارث على مستوى التضخم ووقف الشركات والمصانع التي لا تجد مواد خام أو أجهزة أو قطع غيار وخلافه (وفي هذا السياق يمكن أن نقرأ واقعة القبض على مواطن في المطار كان بحوزته 30 ألف دولار   يشتري مكن للمصنع الخاص به من من الخارج)

ماذا بعد القرض: هل من أمل؟

يمكن أن ننظر للقرض من عدة نقاط:

أولا: كما تحدثنا أعلاه فأن مشكلة الدولار في مصر ومعقدة، والمسألة لا تتعلق بسعر الصرف وحده، بل بالوارد والمصروفات الدولارية وهو ما يرتبط بهيكل الاقتصاد ككل وسياساتنا الاقتصادية بوجه عام، ومن ثم فإن وجود القرض من عدمه ليس عاملا في تغيير السياسات الاقتصادية في ذاتها، وخاصة في قيمة القرض.

ثانيا: قيمة القرض هي 3 مليار دولار سيتم صرفها على 46 شهر، وفعليا تم استلام 347 مليون دولار كدفعة أولى، وهو نصف المبلغ المتوقع للدفعة الأولى (750 مليون دولار حسب تصريح وزير المالية).

بالإضافة لذلك فهناك تسهيلات لتمويلات تصل إلى 14 مليار دولار من شركاء إقليميين.

ولكن بالنظر لبيان صندوق النقد، نجد البيان يتحدث بشكل صريح عن ال14 مليار دولار بقوله أنها “شاملا موارد تمويلية جديدة من دول مجلس التعاون الخليجي وشركاء آخرين من خلال عمليات البيع الجارية للأصول المملوكة للدولة وقنوات التمويل التقليدية من الدائنين الثنائيين ومتعددي الأطراف” أي أن هذا التمويل سيكون من خلال شراء أصول للدولة – مثلما يحدث حاليا بالفعل -، ومن ثم بعيدا عن مناقشة نقطة بيع الأصول (وهو ما سنتحدث عنه لاحقا)، فالسؤال هنا هل الحزم التمويلية التي يشير لها الصندوق قد بدأت بالفعل، فالصناديق السيادية الخليجية قد شرعت بالفعل في شراء أصول متنوعة (آخرها كان عرض شراء المصرف المتحد من قبل الصندوق السيادي السعودي بقيمة 600 مليون دولار) ومن ثم هل ما تم الوعد به من قبل الدول الخليجية هو جزء من هذه الحزمة (14 مليار دولار) أم أنه بالإضافة له، وهو سؤال لا توجد له إجابة حتى الآن.

ولكن بعيدا عن تفاصيل الأرقام، فإن إجمالي الأرقام مازال ضئيلا للغاية، يكفي أن نعلم أن لدينا تأخيرا في تدبير العملة لمستوردين وضعوا بالفعل المقابل بالجنية المصري لدى البنوك منذ شهور، ويبلغ هذا التأخير قيمة 5-6 مليار دولار، هذا فضلا عن 9.5 مليار دولار أقر رئيس الوزراء مؤخرا بتواجدهم كبضائع في المواني المصري لم يتم خروجها لنفس السبب (لا نعلم على وجه الدقة على أرقام رئيس الوزراء تشمل متأخرات التدبير أم يضاف عليها) ومن ثم نحن أمام إلتزامات حاليا تزيد عن 4 أضعاف ما سنأخذه من الصندوق في ثلاث سنوات ونصف.

بل مع وضع كافة الحزم التمويلية في إطار القرض، نجد أنها بالكاد تكفي جزء من إلتزامنا الحالي، ومن ثم فإنها لا تكفي ليس فقط كافة التزامنا الحالي بل أيضا التزاماتنا المستقبلية القريبة والي تبلغ بحسب البنك الدولي 42.3 مليار دولار في السنة المالي 22-23.

ثالثا: القرض مرهون ب 4 شروط، ذكروا بشكل صريح في بيان الصندوق الأخير، 

1- أن نحرر سعر الصرف بشكل دائم، أي لا نكرر ما فعلناه في 2016 من تعويم مدار، ولكن المسألة ليست في سعر الصرف كما تحدثنا، بل في قدرتنا على توفير الدولار نفسه، لأن سعر الدولار في النهاية يتحدد بمدى توفره وليس بقرارنا بتحريره أو وضع سعر ثابت له.

2- إلغاء دعم برامج الإقراض، والمعنى هنا بشكل مباشر هو البنك المركزي ومبادراته الخاصة بالاقراض بفوائد منخفضة للقطاعات الانتاجية وغيرها، وهو ما تم بالفعل حيث تم إلغاء كافة المبادرات وترحيلها للوزارات المعنية، وهو ما يعني أن القطاعات الانتاجية (الصناعية والزراعية) لن يكون متاحا لها التمويل قليل التكلفة، ومن ثم بعضها سوف ينهار أو لن يستطيع التوسع، مما يمثل ضربة لهذه القطاعات ومن يعمل بها، وهو ما تحدث عنه الكيانات الممثله لهذه القطاعات.

3- السيطرة على الدين العام وخفض نسبته مع زيادة التمويل الاجتماعي وإدارة المشروعات الاستثمارية الوطنية بما يحقق الاستدامة. هذا البند دائما ما يضرب به عرض الحائط خاصة في مسألة الدعم، وهو ما شهدناه في قرض 2016 وما بعده من تخفيض الدعم على كافة الأصعدة تقريبا، وكان ذلك في سياق زيادة زيادة نسب الفقر بعد تعويم 2016. 

4- إصلاحات هيكيلية لتقليص بصمة الدولة وضمان المنافسة العادلة بين الكيانات الاقتصادية، والحقيقة أن هذا هو بيت القصيد، وخلينا نفرد له نقطة منفصلة

يرغب الصندوق في أن نبيع أصول الدولة، وقد تلاقت تلك الرغبة مع رغبة الحكومة نفسها في نفس السياق، ولكن المشكلة أن ما يتم بيعه حاليا هو الأصول الرابحة، أي شركات وحصص في شركات رابحة وبها فرص للتطور، كما أن معظمها ليس لديه أوضاع مميزة مثل احتكار سوق بعينه أو ما شابه، بل وميزانياتها معروفة ومعلنة وطرق إدارتها بها قدر من الشفافية وخلافه، وفي المقابل فإن شركات أخرى تابعة للدولة أيضا، مثل صافي ووطنية وغيرهم، لا أحد يعلم عن ميزانيتهم شيء ولا توجد شفافية أو إفصاح عن كيفية إدارتهم، مع أوضاع خاصة كثيرة تجعل من معرفة ربحية هذه الشركات غير متحققة، هذا النوع من الشركات ترفض الحكومة منذ سنوات مجرد طرحه في البورصة.

ومن ثم ما يحدث هو بيع للشركات التي لدينا يقين من قيمتها في مقابل رفض لطرح شركات لا ندري على الحقيقة وضعها.

رابعا: عندما ننظر لكل هذا السياق من السياسات الاقتصادية، ونجد عجز الدولة الحالي عن توفير العملة الصعبة ووصول نسبة الديون قصيرة الأجل ل 70% من الاحتياطي، وارتفاع معدلات التضخم ل 21% وغير ذلك، مع شكوى كافة القطاعات الاقتصادية من قرارات الحكومة وسياساتها، عندما ننظر إلى كل ذلك ونجد الحل الذي تقدمه لنا الحكومة هو استمرارها في نفس السياسات وهي المزيد من الاقتراض وبيع الأصول بدون تغيير في سياساتها، فهذا يعني أن هذا القرض وغيره لن يحل الأزمة.

هل سيرتفع الدولار أم سينخفض؟

حتى يكون معيار الحكم على ارتفاع أو انخفاض قيمة الدولار واضحا لدينا، فإنه في حالة عدم توفير مصادر دولار حقيقية ومستدامة سيظل الجنية منخفضا وسيزيد انخفاضا، حتى لو تم اقتراض عشرات القروض من الصندوق، وهو ما حدث بالفعل، فلقد اقترضنا في 2016 وها نحن نقع في نفس الأزمة مرة أخرى.

ومن ثم فإن تغيير السياسات الاقتصادية هو التغيير الحقيقي المأمول، وهو الحل الوحيد المتاح لحل أزمة الدولار، والمعيار في ذلك كله هو مستوى معيشة الأفراد.

كانت هذه هي قصتنا مع الدولار، والتي نرجو أن نشهد لها نهاية مغايرة هذه المرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *